أرض الزقوم

 


*نُشرتْ على فاصلة


ولأنّي كرهتُ الحرام، بقيتُ بلا راتب لخمسة أعوام قابلة للتمدّد.

انتقلتُ بعدَ زواجي للإقامة في العاصمة، وكان أمرًا بَدَهيًّا أن أبدأ من ثمّ في إجراءات الانتقال الوظيفي. قيلَ لي إنّ راتبي سيَتوقّف حتى أجل غير مُسمّى ولَم أصدّق، فأنا أتّبع الإجراءات القانونيّة.

قيلَ لي: ستُساعدك إدارة مدرستك، وسيَتم تسجيل حضورك فيها، وسيَنزل راتبك دون حاجة إلى المُداومة ودون حاجة إلى جدول...
قلتُ لهم: حرام!

قيلَ لي: يا هبلة! سينزل راتبك في قريتك وأنتِ مرتاحة في بيتك مع زوجك!
قلتُ لهم: حرام!

قيلَ لي: نحنُ قرية صغيرة، والناس فيها يعرفون بعضهم، ولن يتردّد مدير المدرسة الطيّب هذا في التغاضي عن عدم حضورك، لا، ولن يتردد حتى مدير رقابة التعليم ولا موظّفوه، هؤلاء موظّفون في الدولة ويَسمحون لك بذلك!
قلتُ لهم: حرام!

قيلَ لي: تَحمّلي إذًا عقبات ما سيحدث لك.

وتحمّلتُ، وتحمّلت… حتى التُّخمة!

لأنّي رفضتُ الحرام، تحمّلتُ موظفين وموظفات غير راغبين في العمل، وكلّما جئتهم بمسوِّغات مطلوبة، طلبوا غيرها. تحمّلتُ الطواف حول المباني الإدارية والسعي بين مكتب وإدارة وإدارة ومكتب، تحمّلتُ مشاهد السفنز والكيك والشاي والقهوة المختلطة بأوراق ومعاملات الناس، تحمّلتُ تأفُّفَهم من وجودي واستهجانهم زياراتي المتكررة.

مدير في إحدى المصالح الحكومية التي أسعى بينها سألني: لِمَ انتقلتِ وقد كان بوسعك أن تتلقّي راتبك من مسقط رأسك دون حاجة إلى عملك هناك؟

لَم أردّ عليه كما كنت أفعل في السابق، فقد بدأتُ أشكّ في معايير الحرام والحلال التي أعرفها.

وحين ادّعتْ إحدى الموظفات نفاد حبر الطابعة لورقة أحتاجُها وخرجتُ من مكتبها ذليلة، سمعتُ قهقهتها وزميلتها، ثم صوت الأخرى تطلب منها الإسراع في طباعة ورقةٍ ما لها! وتساءلتُ: هل طعم الحرام لذيذ؟!

تُخبرني قريبة لي أنّ أفضل وسيلة هي "التبحبيح"، أي الرشوة، تقولها ثم تنطلق عائدة إلى شقّتها الكائنة في إحدى العمارات المأخوذة عنوَة مِن مُلّاكها، أو الذين دفعوا دفعات مقدّمة لحجزها قبل سنوات طويلة. هل تعي قريبتي في أي بحر هي غارقة؟

حين قرّروا في نهاية المطاف التخلّص مني، أرسلوني لاستخراج وثيقة ما من مكتب عرفتُه، فجارنا العزيز يعمل فيه؛ فرحتُ وقلتُ في نفسي: خلاص، فُرِجَتْ!

فإذا بزميله يطلب منّي العودة بعد شهر أو اثنين، ريْثما يجدون بديلًا عن جارنا، سألته: وهل استقال؟ قال: لا، ولكنه نازح هُدِم بيته وما يزال نازحًا في مدينةٍ أخرى...

لقد رأيتُ جارنا صباح اليوم وألقى عليّ التحية. تقول زوجته إنّه يتعب في العمل، ولا أدري ماهيّة عمله هذا! تقول زوجته: الراتب والله ما يسدّ، البركة منزوعة من الوقت والفلوس!

تُراها تقصد الراتبين معًا؟ أم راتبه الحكومي الذي ينزل له شهريًّا بلا عمل، وبكذبة؟ ومن أين ستأتيكم البركة يا حاجّة؟ أم تُراني أنا التي تهذي؟!

لأني رفضتُ الحرام -أو ما بتُّ أظنه حرامًا- اكتشفتُ صدفةً أن أوراقي ومستنداتي جميعها ضاعت، اختفت، انتهتْ، وصار لزامًا عليّ الآن أن أبدأ مجدّدًا في جمع الأوراق، تصويرها، ختمها، توقيعها، بالطّواف والسعي سبعين أسبوعًا.

بدأ الندم يتسلّل إلى قلبي، هل سأكون المَلاك الوحيد وسط هؤلاء؟ في غمرة حيرتي، عاد زوجي بأَسًى جديد وهمّ عظيم أرخى كتفيه وأظلم وجهه، فهو عازم على تقديم استقالته!

- ما خطبك؟! أنا على وشك ولادة طفلنا الثاني، ولا راتب لي... كيف سنعيش؟
- الرزق على الله يا سميرة.

وحين أنصتُّ إليه، عرفتُ أنّ مديره يدعوه إلى مشاركتهم مائدة عظيمة مِن ثمار الزَّقّوم، يأنف زوجي الملعون بلعنتي المشاركة فيها، يقول إنه دُعي باستمرار لاستغلال منصبه، يحثّه مديره على الشفط واللهط، يقول له: "طشّة زقيقيم شن بيديرلك؟! استفيد من مكانك توّا قبل لا تندم"... وَوَدّت الزانية لو أنّ النساء كلّهن زواني!

ضاقت عليْنا إذًا، نحن نعيش في أرض يُعدّ فيها الزّقّوم بضاعة مدعومة، من رأس الدولة إلى أصغر حُرّاسها.

- هل سيَضرّنا بعض الزّقّوم يا صلاح؟

تأمّلَني قليلًا قبل أن يُجيبَني:
- جرّبيه، وأطعميه لطفلك هذا والذي في بطنك معك! ولنَرَ...

حَوْقَل ثُمّ أضاف:
- أنتِ تعرفين جيدًا ما الحرام وما الحلال، ولكن ربما لَم يخبرك أحد أنّ الحلال أصعب!

إلى أي حدّ سنَمضي في الطريق الصعب؟ لستُ واثقة، أنا واثقة فقط أنّي سأعجز عن وضع رأسي فوق وسادتي إن تناولتُ حبّة زقّوم واحدة من هذه الأرض الخصبة به.

- كتابة | كوثر الجهمي
- تدقيق | نِسرين أبولويفة
- مراجعة | آية أبو سعيدة

تعليقات