كل فجوة معرفية يتموضع حولها السرد لابد بالضرورة أن تنتج نصاً روائياً متميزاً لاسيما وإن كان الكاتب ذكياً، واستطاع توظيف تلك المعرفة في صيغ جمالية تظهر العمل على الشكل الأمثل. وفي رواية العقيد اتكأت الكاتبة كوثر الجهمي على فترة تاريخية تعد قريبة زمنياً نوعاً ما،(حرب تشاد وأسر الجنود الليبيين ثم انضمامهم إلى صفوف المعارضة في أمريكا)، وعلى الرغم من أنها فترة مشوشة وغامضة وتعد منطقة حرجة مفخخة بالمطبات الايدلوجية والاجتماعية، لكن الكاتبة استطاعت أن ترتق هذه الفجوة وتقدم عملاً ناضجاً متكاملاً مشبِعاً للرغبة الإنسانية في المعرفة، ومثبتاً أن الرواية لا تقتصر على كونها جنساً أدبياً يكرس الحكي، وإنما عنصر هام في تدوين التاريخ، وخاصة في جوانبه المنسية المتعلقة بالشق الإنساني الذي يغفله علم التأريخ.
في هذا العمل الروائي (العقيد) نتعقب مسيرة الأحداث في حياة العقيد علي المرابط الضابط الليبي الذي سلخ سبع سنوات من عمره ما بين الأسر على يد القوات التشادية بعد هزيمة ساحقة في معركة وادي الدوم، وما بين صفوف المعارضة السياسية في ولاية أطلانطا، لينتهي قتيلاً في ظروف غامضة، تماماً كما كانت تختفي بعض الشخصيات الضالعة في الحياة السياسية، سواء بسلاح النظام أو سلاح المعارضة.
علي المرابط حين ظهر في الصفحات الأولى كان بصدد حجز تذكرة العودة إلى ليبيا حيث زوجته الأولى وابنته، بعد حصوله على ضمانات بعدم المساس بسلامته، ولكن قبل موعد الرحلة بساعات يسدد أحدهم رصاصة نحو رأسه من ثقب نافذة، وتبدأ حكاية الرواية من مقتل المرابط، من (النهاية) كما قررت الكاتبة أن تسمي فصلها الأول.
تتعدد أصوات السرد في الرواية على هيئة شهادات توثيقية تقدمها شخصيات كانت لصيقة بعلي المرابط، زوجته غزالة الكريتلي، شقيقهُ عمر، وبرْكة رفيقهُ في الجبهة والأسر ومعسكر المعارضة، ليغطي كل واحد منهم جانباً من شخصية المرابط، وهو بالدرجة الأولى توثيق للحالة العامة في ليبيا بداية من حقبة السبعينيات حيث عتبة الانتقال السياسي وطفرة البترول وأثرها على الحياة الاجتماعية، ثم العواصف والمنعطفات الثورية، ثم حرب تشاد في منتصف الثمانينات، ثم حالة ركود عام انتهت بأحداث 2011 بتبعاتها على حياة الزوجة غزالة وابنتها حسناء، اللتان أجبرتهما الصراعات المسلحة والظروف الأمنية على مغادرة البلاد واللجوء إلى تونس.
تعد هذه الرواية تكملة أو جزء ثانٍ (إن صح التعبير) لروايتها السابقة (عايدون) التي صدرت خلال العام 2019، وكانت تتمحور حول مفهوم الاغتراب والانتماء وصراع الهويات، والحريات والاستقلالية، حيث أضاءت الكاتبة مساحات السرد حول شخصيتي الزوجة غزالة الكريتلي وابنتها حسناء، خلافا لرواية العقيد التي تمركزت حول شخصية الزوج علي المرابط وابنه (آدم) من زوجته الثانية في المهجر.
وفي هذه الرواية وضعت الكاتبة نفسها في تحديات كبيرة مفتوحة على مسارات شائكة، التحدي الأول هو مغامرة الكتابة عن أحداث حقيقية، وهذا من شأنه أن يقيد الكاتب ويجبره على التحرك في هامش ضيق من الحرية عليه أن يوازن فيه ما بين الأحداث الحقيقية والمتخيلة، دون الإخلال بالأمانة التاريخية وشروط الإبداع المحركة للسرد وهو أمر يدرك مدى صعوبته كتاب هذا النوع من الروايات إذْ أن المتخيل لابد أن يعتمد على مرجعية واقعية وهو ما يقيد حرية الكاتب خلافا للروايات المعتمدة على قصص اجتماعية أو إنسانية صرفة، وتحدٍ آخر هو مناقشة قضايا خلافية متجذرة وحساسة تتعلق بـ (ثورة أو انقلاب سبتمبر)، والضباط الأحرار والقومية و(الثوريين) و(الثوار) والمعارضة الليبية في الخارج، وغيرها من المفاهيم التي من الصعب الخوض فيها دون تبني موقف من إحداها أو أكثر، لكن الكاتبة قدمتها برؤى تجريدية محايدة تاركة للقارئ تبني مفهومه الخاص اتكاءً على سلطة المنطق أو التأويل، كما يضاف تحدٍ آخر وهو جمع خيوط الرواية (العقيد) المتشعبة عن الرواية الأولى (عايدون)، والسير بنفس النسق الذي يحكم الشخصيات وخصوصياتها لتظل محافظة على توهجها وحضورها رغم دخول عناصر وأحداث شائكة وجديدة في مسار السرد.
هذه التحديات الفنية الكبيرة عالجتها الكاتبة بالقدرة على تحليل المعطيات النفسية والاجتماعية والثقافية المحيطة بشخصيات الرواية، والوعي بحالة التلقي التي ألزمتها التركيز على إنتاج المعرفة وترميم الفراغات التاريخية المجهولة. وهذا يرتبط بشكل كبير بوعي الذات المبدعة لديها، وتراكم مخزون خبراتها الثقافية والمعرفية وقدرتها على صياغة نصها بلغة رصينة غير مبتذلة، لتقدم إلينا هذا العمل المتفرد المتكامل في عناصره الإبداعية والجمالية.
عائشة ابراهيم، لصحيفة الصباح، الخميس 22 يونيو 2023
تعليقات
إرسال تعليق