أعترف أنني لم أعد قارئ روايات نهم كما كنت .. أذكر في مراهقتي أنّ أخي أحمد حفظه الله صادر ممتلكاتي من الروايات والقصص ومنعني من القراءة لاعتقاده بأن ذلك يؤثر سلباً على دراستي !..
وربما يكون ذلك صحيحًا إلى حد كبير ، غير أن القراءة أثرت في حياتي وجعلتها ، فيما أعتقد ، مميزة، عن حيات كثيرين حصلوا على شهادات عليا وظلوا على عقولهم التي كانوا عليها ، فلم يضيفوا لها شيئًا سوى معرفة جامدة محصورة في مجال معين تقترب لأن تكون حرفة أكثر منها علمًا ..
أذكر هذا الآن وأنا أفرغ من قراءة رواية "العقيد" للروائية الليبية كوثر الجهمي الصادرة عام 2022 م عن دار الفرجاني ، والتي لم أخطط مسبقًا لقراءتها إلا حين أثارني عنوانها الذي اعتقدت أن له علاقة بالعقيد القذافي !
غير أنني حين قرأت الرواية خلصت لأمور عدة منها :
أننا لا نقرأ لمبدعينا أما كسلا أو لعدم وفرة إنتاجهم ، أو لترددنا في دفع ثمن الرواية وتقديم متطلبات حياتية أخرى عليه ، أو لنقص الدعاية لهم من خلال النقد الانطباعي المواكب لظهور هذه الأعمال وعجز الصحافة أن تكون كما يجب براحًا لذلك ..
أن الرواية الليبية بخير ، تحتاج فقط لقراء يؤمنون بها ، ولنقاد يواكبونها ، ويقدمونها للقارئ أينما كان ..
أما بالنسبة لرواية "العقيد" ، الرواية التي أجبرتني على تناولها في وجبة واحدة ، لأسلوبها السهل الممتنع ، وللغتها التي تخلط بين السرد والشعر ، ولحساسية الموضوع الذي تناولته فإنها تصلح لأن تكون مسبارًا للأحداث الجوهرية التي تعرضت لها البلاد منذ عام 2011 م ، ورغم أنها حاولت أن تتناول المجتمع الليبي في غير إسهاب منذ أواخر العهد الملكي حتى يومنا هذا ، إلا أن جل تركيزها كان حول الصراع المادي والمعنوي الذي دار ومازال يدور في المجتمع الليبي حول مفاهيم الحرية والوطنية والثورات و الولاء ..
إن الرواية كما تقول كاتبتها : " دعوة للخوض في هذه المساحة من إعادة النظر، ومحاسبة ذاتية دون جَلْدٍ أو تمجيد، والتغيير الحقيقي هو حركة تراكمية لا تحدث بين يوم وليلة نسمّيها مباركة، أو مجيدة! التغيير الحقيقي هو ذاك التأثير الذي تُحدِثه قطرات الماء بنعومة شديدة، وبتكرار منتظم، فوق الصخر."
الرواية تنثر شخوصها على اتساع المجتمع ملكيين وثوريين وثوار ، وعلى اتساع الكون في ليبيا وتشاد وتونس و أمريكا ..
والرواية لا تخلو من الرمز المؤثر ، فليس من الصدفة أن يكون القاتل بعين واحدة ، وكأنها تقول أن النظر إلى الآخر بعينك المجردة أحادية الرؤية هو قتل مقنع ..
" بكيتُ وأنا أرى جَدِي ينتحب عند النافذة متطلعا لضحيته، حاولت أن أسأله (لماذا؟)، رغم أني أعرف السبب، ولكن صوتي خذلني، شيء غريب لاحظته على جَدّي في الكابوس، لقد كان بعين واحدة، الأخرى مُضمَّدة بقطعة سوداء مثبتة بخيط يلفّ على رأسه، تمامًا كتلك التي على عين العجوز الذي رأيته بين المعزين (القاتل)... جيد أن مُخيلتي أثناء النوم تساعدني على تخيل المشهد الختامي وتقوم بنصف الكتابة لم لا؟ لم لا يكون القاتل هو صاحب العين الواحدة؟ هي رواية في نهاية المطاف... وهل يهم من القاتل حقًّا؟! ملحد ، ثوري أم مرتزق، صاحب قضية أم صاحب حساب مصرفي ... فالمسألة مسألة مصادرة حيوات لا حياة واحدة، وحُكم غيابي دون دفاع لا يمكن تبريره .."
لعلنا في حاجة لمثل هذه الأعمال التي تغوص في واقعنا دون أن يكون همها المسبق الحكم لصالح أحد ..
استمتعت بالرواية و قضيت معها وقتا جميلا رغم البرد وغياب الكهرباء !
تعليقات
إرسال تعليق