رسالة السيدة "لا شيء"


 

وعي المرأة بدورها في المجتمع، يخضع بصورة شبه دوريّة، لحركة تشبه المدّ والجزر.

وبين ما ينبغي أن تكون عليه المرأة وبين ما لا ينبغي عليها أن تكونه، ذاك الصراع الذي تشكل في معظمه من أفكار هي في الغالب متطرفة، يُلاحظ أن السمة العامة تقترب في كل جيل نحو أحد الطرفين.

في قراءة لكتاب "اللغز الأنثوي"، من تأليف بيتي فريدان، الصادر مطلع ستينيات القرن الماضي، أثار اهتمامي حالة عدم الرضا واليأس التي سيطرت على ربات البيوت في الولايات المتحدة، بعد رحلة من الصراع النسوي، ونيل النساء كثير من الحقوق التي طالبن بها في عقود سابقة. ما حدث أمر يشبه الردّة، ففي مقابل الحركة النسوية التي دعت النساء للانخراط في سوق العمل أسوة بالرجال، تكوّنت حالة جزر، قرّرتْ فيها النساء العودة للبيوت ورعاية الأطفال، فترة إعداد الكتاب كانت الفترة التي أعقبت هذا القرار الجماعي، عندما بدأت النساء -من جديد- تتذمّر من كونها لا تعرف نفسها. وكانت بيتي فريدان إحدى هؤلاء، وأربكها كونها لم تعرف نفسها: أهي ربة بيت أم كاتبة؟ وهل الكتابة عمل حقيقي؟

بعض النساء ربات بيوت برغباتها المحضة، وبعضهنّ مضطرات لتحريمات دينية أو عرفية لدى بيئتها.

بعض النساء تعمل برغباتها المحضة، وبعضهنّ مضطرات أيضًا لضرورات مادّيّة بحتة. 

أما لو تُركتْ كل النساء لرغباتها، فأظنّ أن موجة الوقت الراهن تتجه نحو الجزر، أي العودة للبيوت. هذا من منظوري وملاحظتي الشخصية.

بالعودة إلى حالة الجَزْر الشبيهة بما أظنها في الوقت الراهن، والتي حدثت أواخر خمسينيات القرن الماضي في أمريكا وكندا، فقد وصلتْني عبر بريدي الإلكتروني هذه الرسالة اللطيفة، من إحدى المدونات التي اشتركت بها (مدونة letters of note)، هي رسالة لسيدة تُدعى بياتريس مايتلاند، أرسلتها إلى دوريس أندرسون، محررة مجلة شاتلين ذائعة الصيت في كندا عام 1960، إثر إطلاق المجلة لمسابقة "سيدة شاتلين"، وهي مسابقة سنوية لاختيار ربة المنزل الكندية المثالية.

يبدو أن السيدة بياتريس رغبتْ بشدّة في المشاركة، ولكنها اكتشفت أنه الأجدر بأمثالها التقدم إلى مسابقة السيدة "لا شيء"، ربما كانت بياتريس لا تعرف من تكون، أهي ربة منزل، أم أنها "سترونق اندبندت وومن" أضاعت طريقها! الرسالة تبيّن حجم الضغط التي تتعرض له النساء، كيف ينبغي أن يكنّ مدبّرات بيوت بارعات، ممشوقات القوام، أمهات مثاليات، طباخات ماهرات... إلخ، والأهمّ أن يقُمن بكلّ هذا بابتسامة عريضة وأناقة تامّة.

التذمر المغلّف بالسخرية في رسالتها ذكّرني بالضغط النفسي الذي يخنقني في "قروبات الأمهات" على الواتساب، والتي يقترب موسمها الآن مع اقتراب العام الدراسي.

وهذا نص رسالة بياتريس والذي تم نشره بالفعل على صفحات المجلة ولقيت رسالتها ترحيبًا واحتفاءً من قِبَل قارئات المجلة:

 

(1 نوفمبر 1961
عزيزتي المحررة،
كان أمس هو الموعد النهائي لمسابقة السيدة شاتلين، لكنني لم أشارك.

أتمنى لو أن أحدهم، يومًا ما، يُجري مسابقةً لـ"سيدة لا شيء"! امرأةٌ ليست مُدبّرة منزلٍ مثالية، ولا أمًّا لا تشوبها شائبة، ولا مضيفةٌ فاتنة، ولا زوجةً حنونة، ولا خادمةً للمجتمع. إلى جانب كونها فاتنةً كعارضة أزياء، وموهوبةً كنجمةٍ في برودواي، وفاضلةً كقديسة.

لقد درستُ استبيانك بعناية، لكن إجاباتي غير كافية إطلاقًا. بدايةً، مظهري مُرهقٌ للغاية. أعاني من زيادة الوزن، وجسمٌ مُقوّس، وساقاي مُنحنيتان. ونتيجةً لذلك، ولأنني لا أملك الكثير لأُنجزه، لا أُكلف نفسي عناء العمل، بل أرتدي بنطالًا قديمًا مريحًا ودافئًا.

أما بالنسبة للأعمال المنزلية، فالفشل فيها مُمكن أيضًا، فأنا مُدبرة منزل سيئة. إذا شعرتُ برغبة في الخياطة، أو النوم، أو كتابة رسالة، كما حدث هذا الصباح، فعلى المنزل أن ينتظر.

هل تريدين التسلية؟ نادرًا جدًا. زوجي ليس اجتماعيًا، لذا أي شيء يكون عفويًا مع الأصدقاء المقربين. لعبة ورق أو مجرد حديث مع بعض أكواب البيرة. لا طعام فاخر، ولا مشروبات، ولا ترفيه.

وجبات؟ نفضل وجبات اللحم والبطاطس والخضراوات البسيطة دون إضافات. في أعياد الميلاد، يختار أطفالنا العشاء. ما هي قائمة الطعام؟ عادةً ما تكون الهامبرغر ورقائق البطاطس. إذا أعددتُ وجبة فاخرة من مجلة، فسيشعرني أطفالي بأنهم قد تسمموا! لا يمكنني الفوز هنا.


الديكور عبارة عن متجر خردة إنجليزي أوروبي متوسط، وخاصة عندما يبدأ الأطفال في أداء واجباتهم المدرسية.

أنشطة مجتمعية؟ لطالما انتميت إلى منظمات أخرى وعملت معها، لكنني سئمت الاجتماعات ومللتها فتركتها، اجتماعات المدرسة، حيث يجلس الناس كالقرود المحنطة، وينظرون إلى أي شخص ينهض ليقدم اقتراحًا كما لو كان من كوكب المريخ.
ما هي فلسفتي كربة منزل؟ أعتقد أنها: كوني سعيدة، لا تقلقي. افعلي ما بوسعكِ بما لديكِ وقتما تشائين. وبالتالي، لا أشعر بالمرض أبدًا، ولا أشعر بالتوتر أو الخوف.
يا لي من مسكينة. لذا، إن رغبتِ في تنظيم مسابقة لاختيار "سيدة لا شيء عام 1961"، فسأكون سعيدة بالتقديم، وربما أفوز بها بلا منازع. شكرًا لكِ على مجلتك الممتعة، وأعتذر عن إضاعة وقتكِ.)*

ختامًا، وبعيدًا عن موضوع النسوية، للإنصاف، فأنا أعتقد أن الأم التي تستحق أن تُرصد لها جائزة في وقتنا الراهن، هي الأمّ الفلسطينية، الغزاوية تحديدا، ليست في كامل أناقتها بكل تأكيد، بشرتها وجسدها يقاسيان، بطنها فارغة ونهدها كذلك، الابتسامة مرهونة بابتسامة أطفالها الجوعى، ولكنها مازالت تصنع من العدس رغيفًا، ومن التهويدة طمأنينة، ومن حضنها وطنًا. 

 

-----------------------

*الرسالة جاءت في كتاب ( كندا: صورة في الرسائل، 1800-2000) الصادر عام 2003، للكاتبة الكندية شارلوت جراي Charlotte Gray

تعليقات