*نُشرت على فاصلة، 2020
"توقف نمو" للروائي والقاص الليبي "شكري الميدي أجي" - منشورات دار سؤال. كانت تجربة قراءة جديدة بالنسبة لي، ومناسِبة تمامًا لظروف الحجر الصحي؛ حيث نتوق في أوقات كهذه إلى تجارب جديدة نُثري بها حياتنا ونعوّض بها بعضًا ممّا حُرمنا منه.
هي تجربتي الأولى مع روايات المؤلف (سبق وقرأتُ له قصصًا ومقالات)، ومع قراءة أدب فلسفي واقعي معاصر، قلم شكري الميدي أجي الذي لطالما أثار فضولي عبر مدونته وقصصه القصيرة التي ينشرها عبر حسابه، ولأعترف، فقد أثار غيرتي أيضًا!
شكري الميدي شاب من جيلي، تحديدًا نفس مواليدي، سبقني إلى عالم الكتابة، فنشر روايتين ومجموعة قصصية، وشارك في أنثولوجيا شبابية، كذلك يكتب وينشر في عدة مواقع وصحف... ولأتوقّف عند هذا الحد، ولنعُد مجدّدًا إلى "توقف نمو" التي حصلتُ على نسخة منها هدية من هذا الروائي المثابر والملهم.
مُسِنٌّ من الجهاز الأمني، وشاب خرج للتو من تهم الخيانة العظمى دون أن يعرف سبب القبض عليه أو سبب خروجه وإطلاق سراحه، الشخصيتان الرئيسيّتان في الرواية، تتداخل مصائرهما مرتين، يدرك المُسنّ جيدًا -وهو المحسوب على الحرس الثوري القديم- ما حدث في المرتين، إلَّا أنَّ الشاب لا يعرف إلَّا نصف الوقائع، ولا شيء عن الحقائق والأسباب الكامنة وراء مقتل والده واعتقاله بعد عقدٍ من ذلك. لن تتعرف على أسمائهما دونًا عن بقية الشخصيات، ممّا يدفعك إلى التساؤل عن فلسفة الكاتب في ذلك... فهما شخصيتان رمزيتان، لجيلين، وحقبتين زمنيتين، وعالَمَيْن منهاريْن. تتقاطع مصائرهما مع حصان أبيض كهل، أسير قيود وهمية، ويبدو الإسقاط هنا والربط بين الحصان والشخصيتين واضحًا.
تبدأ الرواية مع نهايتها الوشيكة، ثم تنطلق بك تدريجيًّا للخلفية التاريخية لكلِّ شخصية، وهذا ما قد يدفعك لإعادة قراءة الفصول الأولى بعد الانتهاء منها مجدّدًا، ستقرؤها بفهم أكبر، وإحساس أكثر عمقًا.
استغرقتني مئة صفحة كي أغوص في عالم الشخصيتين في الرواية المكونة من 300 صفحة، أمّا آخر مئة صفحة فستركض بك إلى النهاية التي لن تخطر على بالك، رغم أنه يفترض بها ذلك بحسب المنطق والتسلسل والتلميحات المذكورة في الفصول الأولى!
يسعى الشاب القادم من بقعة في الجنوب "الكفرة" إلى "بنغازي" نحوَ بدء حياة جديدة، ولكنه للمفارقة، يجد نفسه يُنقّبُ في ذكرياته بين شوارع بنغازي ومع موسيقى "الراي" الحزينة، وسيلته في ذلك تجميع الصور وتصميمها. يتعرف إلى "حسَّان" الذي يعمل معه، يُعتقلان معًا إثر حادثة السفارة الإيطالية في بنغازي 2006، يُقتل حسَّان، بينما ينجو الشاب. تتعرف تدريجيًّا على علاقة المُسنِّ بإطلاق سراح الشاب، ما الذي تغير في عقل المُسنّ؟ ذاك الثوري العنيد الذي بدأت مسيرته مع النظام السابق منذ 1973! وما الذي غيّره الاعتقال في ذاكرة ذاك الشاب التائه؟! هل ينبغي حقًّا أن نعرف حقيقة الذكريات حيث "الجمال تفصيل صغير منها"؟ هل تنبغي ملاحقتها؟ يقول متذكّرًا أسطورة ما: "إفناء العدوّ ليس إلَّا إفناءً للذات" رافضًا أخيرًا لمبدأ الملاحقة، مستسلمًا لحاضره مع حبه الجديد، فتاة تفهم عالمه وتغوص معه فيه، رومانسية عذبة نالت حصتها في جزء يسير من الرواية.
يقع الشاب في حب بنغازي أيضًا رغم عدم فهمه لها: "الارتباط بالمدن مشابه للارتباط بالفتيات، تناقضات هائلة تحكم تلك المشاعر"!
يبدّل مشاعره ومواقفه باستمرار في رحلة التيه التي بدأت منذ فقد أبيه: "كان يُغيّر نظرته للإيمان أيضًا على نحو مستمر، لكل مرحلة عمرية، وأثناء كل صورة جديدة أو كتاب جديد، يضع إيمانه في امتحان دائم".
أمّا المُسنّ، فيُقطّعه ماضيه، ينحره يوميًّا بقذارته، حتى مع محاولاته الحثيثة للتنظيف الذاتي! تارة بملاحقة الشاب والتعرف إليه، تارة بالتعبير عن سعادته بثورة أسقطت النظام، بنحيبه على كورنيش بنغازي، باحتفاظه بصناديق ومذكرات الشاب ووالده المغدور. يقول: "أشعر بالعار طوال الوقت... أنظر إلى الآخرين، أتمنّى أن آخذ ولو لحظة واحدة قصيرة، أودُّ أن أكون شخصًا آخر، فقط للحظة أشعر فيها بالنظافة…"
وحين يخبر الشاب بسعادته بثورة فبراير، يردّ الشاب: "حين يقول هذا شخص من خارج منظومة الحكم السياسية أصدقه تمامًا، أمّا أن يكون من قبل شخص كان من ضمن النظام، فهي وقاحة لا يمكن استساغتها!"، يمثّلُ الشاب فئة عظيمة من الشباب الليبي المقهور من النظام السابق، والمفجوع في الفوضى الحالية، ثم يعود مجددًا للتنقيب في ذاكرة وطنه، لا فقط ذاكرته الشخصية.
لغة الرواية سهلة مع عمقها المعنوي، فلسفية ولكن بانسيابية وبأسلوب عصري، وأسلوب السرد إجمالًا يتبنّى صيغة الراوي العالم، مع بعض المداخلات من الشخصيتين الرئيسيتين. وارتأيت في شخصية المُسنّ تناقضًا مقنعًا، وفق تاريخه الاجتماعي والثقافي، لقد فسّر ما آل إليه أمره، ليدرك القارئ حقيقة لا مفرَّ منها، أنَّ الأخطاء الوطنية هي أخطاء تراكمية، عليك محاسبة الماضي البعيد تزامنًا مع محاسبة الماضي القريب، ومن ثَمَّ الحاضر.
أحب الروايات التي تدفعني إلى طرح أسئلة جديدة، ورواية "توقف نموّ" فعلتْ ذلك بجدارة!
أنصح بقراءتها فور توفّرها في المكتبات الليبية، وأرجو من أصحاب المكتبات الليبية توفيرها في أقرب فرصة.
تدقيق: زينب عكرة.
تعليقات
إرسال تعليق