سنوات الجري في المكان: ميّتٌ موجود، وأحياء غائبون

 


منذ بدأتُ أكتب النصوص القصصية والسرديّة، منذ بدأتُ أتعلّم أكثر وأغوص في أصول هذه الصنعة الإبداعية؛ تغيّرتْ طريقة تذوّقي للنصوص، وباتت علاقتي بالكتب تشبه علاقة المرأة بالرجل بعد سن الثلاثين؛ أقلّ اندفاعًا في إطلاق الأحكام، أقلّ تهوّرًا، وأكثر دفئًا وتفهّمًا واحتواءً. القراءة بعين القارئ والكاتب معًا تُشكّل عائقًا أحيانا أمام تذوّق نصّ ما، وهذه من أعراض الحساسية التي لا بدّ أن ينتقل إليها كل كاتب في مرحلة ما من عمره الكتابي مخلّفًا السذاجة خلفه، أو جزءًا كبيرًا منها.

أقول هذا، لأنّ المتعة رغم حضورها، فقد بات من الصعب لها أن تقترن عندي بالدهشة أمام كتاب ما، ولا يسعني إلا الاحتفاء بكلّ نشوة جديدة، اقترنت فيها متعة القراءة بألم التجربة، كيف لا أحتفي بنصّ عبقريّ!؟

"سنوات الجري في المكان"، رواية تروي قصة موت نُفّذ على عجل، وموت آخر مع وقف التنفيذ، كيف يمكن لميّت أن يكون موجودًا أكثر من الأحياء؟ كيف يغيب الأحياء ويحضر الأموات؟ ما معنى أن تموت منك نسخة ما في عالم ما مع كلّ فقد يحدث في حياتك؟

يتوقف أبطال الرواية عن الانتقال من نقطة إلى أخرى في حياتهم منذ موقعة الجمل 2 فبراير 2011، وكأن مصطفى وياسمين ويحيى ونانا دخلوا لحظة موت سعد إلى تلك الفقاعة التي ظل يجري فيها هو ثلاثون يومًا بمعرضه الفني، كلّ منهم يدور في فقاعته، يحاول الخروج منها، ولكن عبثًا، مثل هامستر يدور في دولابه سعيًا خلف تقدّم ما. وبفقدان أحدهم لحياته، يفقد كل من البقية حاسة من حواس أجسادهم، وتأخذ الرواية بقارئها في رحلة، لا بين حكاياتهم فحسب، بل رحلة في عالم الحواسّ، يُعلن كلّ فصل عن الحاسّة التي كانت حاضرة بقوّة يومًا ما ثم غابت فجأة بعد رحيل سعد، يأتي هذا الإعلان بمقطوعات نثريّة شعرية غنيّة.

هذه الجوانب هي ما ستُشكّل الجانب الشائق والممتع للقارئ، ولكن ثمة جانب آخر اعتبرته تحدّيًا لي، تحدي منحني فرصة اكتشاف وتعلّم جديدة.

الرواية مبنية على عدة فصول، فصل لكل شخصية، تبدأ بسعد، الذي ذكرني فصله بمقدمة لرواية "10 دقائق و28 ثانية في هذا العالم الغريب"، للروائية أليف شفق، مكتوب بصوت الطاقة التي نسميها الروح، كان الفصل الافتتاحي الأروع هنا، حتى بعد ان ينتهي، ستحسّ بأن روح سعد واصلت قراءة النصّ معك، وستحتار في الفصل الأخير الذي اختير بعناية أيضًا، عمَّا إذا كنت واقعًا تحت فخّ صنعته لك نانا، نانا (نهال عبد الوهاب، أو نورا ناجي ربما!).

ورغم أن التسلسل لا يبدو مهمًّا جدا بين بقية الفصول، فكل فصل يقدم تفسيرًا لغموض في الفصول الأخرى، ولكن كان ينبغي أن يكون الفصل الأول لسعد الذي رحل دون أن يدري بأن رحيله سيضغط على زر "إيقاف" بقية الشخصيات، وأن يكون الفصل الأخير لنانا التي قررت أن تنتهي من هذه المعضلة، وأن تخرج نفسها والبقية من هذه الفقاعة بكشف كل شيء في كتاب.

ينتقل لسان الراوي هنا بين الـ"أنا" والـ"هو" والـ"أنت"، ويتعدى ذلك إلى فصل مكتوب بالكامل بتقنية الكتابة المسرحية، وهذا الانتقال له دواعيه وأسبابه الفنية التي تناسب كل شخصيّة، فلسان الراوي العليم "هو" يخصص لمصطفى، تساءلتُ هل لأنه يعاني مشكلة مع الأصوات ويوشك أن يفقد سمعه، ثمّ تجيب نانا عن سؤالك لاحقًا:

"لأنه طوال عمره يسرق الحواس ويسرق السنين ويسرق حتى كلماتك هذه، سيحكيها بصوته في روايتك وسيظهر بمظهر البطل، ربما لذلك لن تمنحيه صوتًا، سيكون فصله بالراوي العليم، لأنه على الرغم من أنه البطل (في رواية نانا)، لا يستحق أن يكون "أنا"..."

ثمّ أعود فأتذكر ما أخبر مصطفى به نفسه في مفتتح أحد فصوله:

"صوتك الذي يسمعه الجميع ليس حقيقيًّا، صوتك مستعار يختلف عما يتردد داخل فراغ جسمك، تريد أن يسمع العالم صوتك الحقيقي، تعبئه في رسائل صوتية، تسجيلات ومقاطع فيديو ومكالمات وهتاف..."

 أما الفصل المسرحيّ فمخصّص ليحيى، الذي يعيش حياة لا تشبهه، يتنكّر في أزياء لا تليق به، لأنه عالق في المكان.

أما نانا، فيكون فصلها بلسان "أنت"، هي تخاطب نفسها أثناء كتابتها، كما يفعل كل كاتب حين يقرر ما سيكون عليه كتابه، وكيف سيمضي فيه، وهذا الصوت هو الأصعب تقنيًّا بين الأصوات الروائية، وأنا أجده الأمتع أيضًا، لأنه يضع القارئ محلّ الشخصيّة نفسها، ويسمح لك بتقمّصها بشكل تامّ، لن تتعاطف معها، نحن لا نتعاطف مع أنفسنا، ولكن نستشعر مواضع الألم، ونحاول بصعوبة الخروج من هذه الحالة.

البقية أترك للقارئ اكتشافها، فهي رواية ميّت موجود، وأحياء غائبون حتى حين. ليست عن معركة الجمل، ليست عن الثورة وإن اتخذتها نقطة انطلاق، هي محاولة تصالح مع فكرة الموت، بأشكاله التي لا حصر لها.


تعليقات